الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)
.ذكر قتل بختيار: فسار بختيار نحو الموصل، وكان عضد الدولة قد حلفه أنه لا يقصد ولاية أبي تغلب بن حمدان لمودة ومكاتبة كانت بينهما، فنكث وقصدها، فلما صار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلمه إيه، وإذا فعل سار بنفسه وعساكره إليه، وقاتل معه عضد الدولة، وأعاده إلى ملكه بغداد، فقبض بختيار على حمدان وسلمه إلى نواب أبي تغلب، فحبسه في قلعة له، وسار بختيار إلى الحديثة، واجتمع مع أبي تغلب، وسارا جميعاً نحو العراق، وكان مع أبي تغلب نحو من عشرين ألف مقاتل. وبلغ ذلك عضد الدولة، فسار عن بغداد نحوهما، فالقوا بقصر الجص بنواحي تكريت ثامن عشر شوال، فهزمهما، وأسر بختيار، وأحضر عند عضد الدولة، فلم يأذن بإدخاله إليه، وأمر بقتله فقتل، وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم، وقتل من أصحابه خلق كثير، واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك، وكان عمر بختيار ستاً وثلاثين سنة، وملك إحدى عشرة سنة وشهوراً. .ذكر استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدان: وكان عضد الدولة أحزم من ذلك، فإنه لما قصد الموصل حمل معه الميرة والعلوفات، ومن يعرف ولاية الموصل وأعمالها، وأقام بالموصل مطمئناً، وبث السرايا في طلب أبي تغلب، فأرسل أبو تغلب يطلب أن يضمن البلاد، فلم يجبه عضد الدولة إلى ذلك، وقال: هذه البلاد أحب إلي من العراق. وكان مع أبي تغلب المرزبان بن بختيار، وأبو إسحاق، وأبو طاهر ابنا معز الدولة، ووالدتهما، وهي أم بختيار، وأسبابهم، فسار أبو تغلب إلى نصيبين، فسير عضد الدولة سرية عليها حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر، وسير في طلب أبي تغلب سرية، واستعمل عليها أبا الوفاء طاهر ابن محمد، على طريق سنجار، فسار أبو تغلب مجداً، فبلغ ميافارقين، وأقام بها ومعه أهله، فلما بلغه مسير أبي الوفاء إليه سار نحو بدليس ومعه النساء وغيرهم من أهله، ووصل أبو الوفاء إلى ميافارقين، فأغلقت دونه، وهي حصينة منيعة من حصون الروم القديمة، وتركها وطلب أبا تغلب. وكان أبو تغلب قد عدل من أرزن الروم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة كواشى وغيرها من قلاعه، وأخذ ما له فيها من الأموال، وعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين وحصرها. ولما اتصل بعضد الدولة مجيء أبي تغلب إلى قلاعه سار إليه بنفسه، فلم يدركه، ولكنه استأمن إليه أكثر أصحابه، وعاد إلى الموصل، وسير في أثر أبي تغلب عسكراً مع قائد من أصحابه يقال له طغان، فتعسف أبو تغلب إلى بدليس، وظن أنه لا يتبعه أحدٌ، فتبعه طغان، فهرب من بدليس وقصد بلاد الروم ليتصل بملكهم المعروف بورد الرومي، وليس من بيت الملك، وإنما تملك عليهم قهراً، واختلف الروم عليه، ونصبوا غيره من أولاد ملوكهم، فطالت الحرب بينهم، فصاهر ورد هذا أبا تغلب ليتقوى به، فقدر أن أبا تغلب احتاج إلى الأعتضاد به. ولما سار أبو تغلب من بدليس أدركه عسكر عضد الدولة، وهم حريصون على أخذ ما معه من المال، فإنهم كانوا قد سمعوا بكثرته، فلما وقعوا عليه نادى أميرهم: لا تتعرضوا لهذا المال، فهو لعضد الدولة؛ ففتروا عن القتال. فلما رآهم أبو تغلب فاترين حمل عليهم فانهزموا، فقتل منهم مقتلة عظيمة ونجا منهم، فنزل بحصن زياد، ويعرف الآن بخرتبرت، وأرسل ورد المذكور فعرفه ما هو بصدده من اجتماع الروم عليه، واستمده، وقال: إذا فرغت عدت إليك. فسير إليه أبو تغلب طائفة من عسكره، فاتفق أن ورداً انهزم، فلما علم أبو تغلب بذلك يئس من نصره، وعاد إلى بلاد الإسلام، فنزل بآمد، وأقام بها شهرين إلى أن فتحت ميافارقين. .ذكر عدة حوادث: وفيها سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر وإفريقية أميراً على الموسم ليحج بالناس، وكانت الخطبة له بمكة، وكان الأمير على الموسم باديس بن زيري أخا يوسف بلكين، خليفته بإفريقية، فلما وصل إلى مكة أتاه اللصوص بها فقالوا له: نتقبل منك الموسم بخمسين ألف درهم، ولا تتعرض لنا؛ فقال لهم؛ أفعل ذلك، اجمعوا إلي أصحابكم حتى يكون العقد مع جميعكم، فاجتمعوا فكانوا نيفاً وثلاثين رجلاً، فقال: هل بقي منك أحد؟ فحلفوا أنه لم يبق منهم أحد، فقطع أيديهم كلهم. وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، وغرقت كثيراً من الجانب الشرقي ببغداد، وغرقت أيضاً مقابر بباب التبن بالجانب الغربي منها، وبلغت السفينة أجرة وافرة، وأشرف الناس على الهلاك، ثم نقص الماء فأمنوا. وفيها توفي القاضي أبو بكر محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة، وله نوادر مجموعة، وعمره خمس وستون سنة. وفيها خلع على القاضي عبد الجبار بن أحمد بالري، وولي القضاء بها وبما تحت حكم مؤيد الدولة من البلاد، وهو من أئمة المعتزلة، ويرد في تراجم تصانيفه قاضي القضاة، ويعني به قاضي قضاة أعمال الري، وبعض من لا يعلم ذلك يظنه قاضي القضاة مطلقاً وليس كذلك. ثم دخلت: .سنة ثمان وستين وثلاثمائة: .ذكر فتح ميافارقين وآمد وغيرهما من ديار بكر على يد عضد الدولة: وكان أبو الوفاء مدة مقامه على ميافارقين قد بث سراياه في تلك الحصون المجاورة لها، فافتتحها جميعها، فلما سمع أبو تغلب بذلك سار عن آمد نحو الرحبة، هو وأخته جميلة، وأمر بعض أهله بالاستئمان إلى أبي الوفاء، ففعلوا، ثم إن أبا الوفاء سار إلى آمد فحصرها، فلما رأى أهلها ذلك سلكوا مسلك أهل ميافارقين، فسلموا البلد بالأمان، فاستولى أبو الوفاء على سائر ديار بكر، وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنين إليه، فأمنهم، وأحسن إليهم، وعاد إلى الموصل. وأما أبو تغلب فإنه لما قصد الرحبة أنفذ رسولاً إلى عضد الدولة يستعطفه، ويسأله الصفح، فأحسن جواب الرسل، وبذل له إقطاعاً يرضيه، على أن يطأ بساطه، فلم يجبه أبو تغلب إلى ذلك، وسار إلى الشام، إلى العزيز بالله صاحب مصر. .ذكر فتح ديار مضر على يد عضد الدولة: ثم استولى عضد الدولة على الرحبة، وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، وهي قلعة كواشى، وكانت فيها خزائنه وأمواله، وقلعة هرور والملاسي وبرقى والشعباني وغيرها من الحصون، فلما استولى على جميع أعمال أبي تغلب استخلف أبا الوفاء على الموصل، وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة، ولقيه الطائع لله، وجمع من الجند وغيرهم. .ذكر ولاية قسام دمشق: وكان القائد أبو محمود قد عاد إلى البلد والياً عليه للعزيز، فلم يتم له مع قسام أمر، وكان لا حكم له، ولم يزل أمر قسام على دمشق نافذاً، وهو يدعو للعزيز بالله العلوي. ووصل إليه أبو تغلب بن حمدان، صاحب الموصل، منهزماً، كما ذكرناه، فمنعه قسام من دخول دمشق، وخافه على البلد أن يتولاه، إما غلبةً، وإما بأمر العزيز، فاستوحش أبو تغلب وجرى بين أصحابه وأصحاب أبي تغلب شيء من قتال، فرحل أبو تغلب إلى طبرية. وورد من عند العزيز قائد اسمه الفضل في جيش، فحصر قساماً بدمشق، فلم يظفر به، فعاد عنه، وبقي قسام كذلك إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة، فسير من مصر أميراً إلى دمشق اسمه سلمان بن جعفر بن فلاح، فوصل إليها، فنزل بظاهرها، ولم يتمكن من دخولها، وأقام في غير شيء، فنهى الناس عن حمل السلاح، فلم يسمعوا منه، ووضع قسام أصحابه على سلمان، فقاتلوه وأخرجوه من الموضع الذي كان فيه. وكان قسام بالجامع، والناس عنده، فكتب محضراً وسيره إلى العزيز يذكر أنه كان بالجامع عند هذه الفتنة، ولم يشهدها، وبذل من نفسه أنه إن قصده عضد الدولة بن بويه أو عسكر له قاتله، ومنعه من البلد، فأغضى العزيز لقسام على هذه الحال لأنه كان يخاف أن يقصد عضد الدولة الشام، فلما فارق سلمان دمشق عاد إليها القائد أبو محمود، ولا حكم له، والحكم جميعه لقسام، فدام ذلك. .ذكر عدة حوادث: وفيها توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبدالله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه، وكان فقيهاً، فاضلاً، مهندساً، منطيقياً، فيه كل فضيلة، وعمره أربع وثمانون سنة، وولي بعده أبو محمد بن معروف الحاكم بالجانب الشرقي ببغداد. ثم دخلت: .سنة تسع وستين وثلاثمائة: .ذكر قتل أبي تغلب بن حمدان: وكان سبب قتله أنه سار إلى الشام، على ما تقدم ذكره، ووصل إلى دمشق، وبها قسام قد تغلب عليها، كما ذكرناه، فلم يمكن أبا تغلب من دخولها، فنزل بظاهر البلد، وأرسل رسولاً إلى العزيز بمصر يستنجده ليفتح له دمشق، فوقع بين أصحابه وأصحاب قسام فتنة، فرحل إلى نوى، وهي من أعمال دمشق، فأتاه كتاب رسوله من مصر يذكر أن العزيز يريد أن يحضر هو عنده بمصر ليسير معه العساكر، فامتنع، وترددت الرسل، ورحل إلى بحيرة طبرية، وسير العزيز عسكراً إلى دمشق مع قائد اسمه الفضل، فاجتمع بأبي تغلب عند طبرية، ووعده، عن العزيز، بكل ما أحب، وأراد أبو تغلب المسير معه إلى دمشق، فمنعه بسبب الفتنة التي جرت بين أصحابه وأصحاب قسام، لئلا يستوحش قسام، وأراد أخذ البلد منه سلماً، ورحل الفضل إلى دمشق فلم يفتحها. وكان بالرملة دغفل بن المفرج بن الجراح الطائي قد استولى على هذه الناحية، وأظهر طاعة العزيز من غير أن يتصرف بأحكامه، وكثر جمعه، وسار إلى أحياء عقيل المقيمة بالشام ليخرجها من الشام، فاجتمعت عقيل إلى أبي تغلب وسألته نصرتها، وكتب إليه دغفل يسأله أن لا يفعل، فتوسط أبو تغلب الحال، فرضوا بما يحكم به العزيز. ورحل أبو تغلب، فنزل في جوار عقيل، فخافه دغفل، والفضل صاحب العزيز، وظنا أنه يريد أخذ تلك الأعمال. ثم إن أبا تغلب سار إلى الرملة في المحرم سنة تسع وستين، فلم يشك ابن الجراح والفضل أنه يريد حربهما، وكانا بالرملة، فجمع الفضل العساكر من السواحل، وكذلك جمع دغفل من أمنه جمعه، وتصاف الناس للحرب، فلما رأت عقيل كثرة الجمع انهزمت، ولم يبق مع أبي تغلب إلا نحو سبعمائة رجل من غلمانه وغلمان أبيه، فانهزم ولحقه الطلب، فوقف يحمي نفسه وأصحابه، فضرب على رأسه فسقط، وأخذ أسيراً، وحمل إلى دغفل فأسره وكتفه. وأراد الفضل أخذه وحمله إلى العزيز بمصر، فخاف دغفل أن يصطنعه العزيز، كما فعل بالفتكين، ويجعله عنده، فقتله، فلامه الفضل على قتله، وأخذ رأسه وحمله إلى مصر، وكان مع أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته، وهي بنت عمه سيف الدولة، فلما قتل حملهما بنو عقيل إلى حلب إلى سعد الدولة بن سيف الدولة، فأخذ أخته، وسير جميلة إلى الموصل، فسلمت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة، فأرسلها إلى بغداد، فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة. .ذكر محاربة الحسن بن عمران بن شاهين مع جيوش عضد الدولة: فلما مات ولي مكانه ابنه الحسن، فتجدد لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة، فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن عبدالله، فأمدهم بالأموال والسلاح والآلات، وسار المطهر في صفر، فلما وصل شرع في سد أفواه الأنهار الداخلة في البطائح، فضاع فيها الزمان والأموال، وجاءت المدود، وبثق الحسن بن عمران بعض تلك السدود، فأعانه الماء فقلعها. وكان المطهر إذا سد جانباً انفتحت عدة جوانب، ثم جرت بينه وبين الحسن وقعة في الماء فاستظهر عليه الحسن، وكان المطهر سريعاً قد ألف المناجزة، ولم يألف المصابرة، فشق ذلك عليه. وكان معه في عسكره أبو الحسن محمد بن عمر العلوي الكوفي، فاتهمه بمراسلة الحسن، وإطلاعه على أسراره، وخاف المطهر أن تنقص منزلته عند عضد الدولة، ويشمت به أعداؤه، كأبي الوفاء وغيره، فعزم على قتل نفسه، فأخذ سكيناً وقطع شرايين ذراعه، فخرج الدم منه، فدخل فراش له، فرأى الدم فصاح، فدخل الناس فرأوه، وظنوا أن أحداً فعل به ذلك، فتكلم، وكان بآخر رمق، وقال: إن محمد بن عمر أحوجني إلى هذا؛ ثم مات، وحمل إلى بلده كازرون، فدفن فيها. وأرسل عضد الدولة من حفظ العسكر، وصالح الحسن بن عمران على مال يؤديه، وأخذ رهائنه، وانفرد نصر بن هارون بوزارة عضد الدولة، وكان مقيماً بفارس فاستخلف له عضد الدولة بحضرته أبا الريان حمد بن محمد. .ذكر الحرب بين بني شيبان وعسكر عضد الدولة: .ذكر وصول ورد الرومي إلى ديار بكر وما كان منه: وكان سبب قدومه أن أرمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين له صغيرين، فملكا بعده، وكان نقفور، وهو حينئذ الدمستق، قد خرج إلى بلاد الإسلام فنكى فيها وعاد، فلما قارب القسطنطينية بلغه موت أرمانوس، فاجتمع إليه الجند وقالوا له: إنه لا يصلح للنيابة عن الملكين غيرك، فإنهما صغيران؛ فامتنع، فألحوا عليه فأجابهم، وخدم الملكين، وتزوج بوالدتهما، ولبس التاج. ثم إنه جفا والدتهما، فراسلت ابن الشمشقيق في قتل نقفور وإقامته مقامه، فأجابها إلى ذلك، وسار إليها سراً هو وعشرة رجال، فاغتالوا الدمستق فقتلوه، واستولى ابن الشمشقيق على الأمر، وقبض على لاون أخي الدمستق، وعلى ورديس ابن لاون، واعتقله في بعض القلاع، وسار إلى أعمال الشام فأوغل فيها، ونال من المسلمين ما أراد، وبلغ إلى طرابلس فامتنع عليه أهلها فحصرهم. وكان لوالدة الملكين أخ خصي، وهو حينئذ الوزير، فوضع على ابن الشمشقيق من سقاه سماً، فلما أحس به أسرع العود إلى القسطنطينية، فمات في طريقه. وكان ورد بن منير من أكابر أصحاب الجيوش وعظماء البطارقة، فطمع في الأمر، وكاتب أبا تغلب بن حمدان وصاهره، واستجاش بالمسلمين من الثغور، فاجتمعوا عليه، فقصد الروم، فأخرج إليه الملكان جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم، فقوي جنانه وعظم شأنه، وقصد القسطنطينية، فخافه الملكان، فأطلقا ورديس بن لاون، وقدماه على الجيوش، وسيراه لقتال ورد، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وطال الأمر بينهما، ثم انهزم ورد إلى بلاد الإسلام، فقصد ديار بكر، ونزل بظاهر ميافارقين، وراسل عضد الدولة، وأنفذ إليه أخاه يبذل الطاعة والاستنصار به، فأجابه إلى ذلك ووعده به. ثم إن ملكي الروم راسلا عضد الدولة واستمالاه، فقوي في نفسه ترجيح جانب الملكين، وعاد عن نصرة ورد، وكاتب أبا علي التميمي، وهو حينئذ ينوب عنه بديار بكر، بالقبض على ورد وأصحابه، فشرع يدبر الحيلة عليه، واجتمع إلى ورد أصحابه وقالوا له: إن ملوك الروم قد كاتبوا عضد الدولة وراسلوه في أمرنا، ولا شك أنهم يرغبونه في المال وغيره فيسلمنا إليهم، والرأي أن نرجع إلى بلاد الروم على صلح إن أمكننا، أو على حرب نبذل فيها أنفسنا، فإما ظفرنا أو متنا كراماً. فقال: ما هذا رأي، ولا رأينا من عضد الدولة إلا الجميل، ولا يجوز أن ننصرف عنه قبل أن نعلم ما عنده؛ ففارقه كثير من أصحابه، فطمع فيه أبو علي التميمي، وراسله في الاجتماع، فأجابه إلى ذلك، فلما اجتمع به قبض عليه، وعلى ولده وأخيه، وجماعة من أصحابه، واعتقلهم بميافارقين ثم حملهم إلى بغداد، فبقوا في الحبس إلى أن فرج الله عنهم، على ما نذكره، وكان قبضه سنة سبعين وثلاثمائة. .ذكر عمارة عضد الدولة بغداد: .ذكر وفاة حسنويه الكردي: وكان يقود كل واحد منهما عدة ألوف، فتوفي غانم سنة خمسين وثلاثمائة، فكان ابنه أبو سالم ديسم بن غانم مكانه بقلعته قسان، إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد، واستصفى قلاعه المسماة قسنان، وغانم آباذ وغيرهما. وتوفي ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين، فقام مقام ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنخان وسلموه إلى حسنويه، فأخذ قلاعه وأملاكه. وكان حسنويه مجدوداً، حسن السياسة والسيرة، ضابطاً لأمره، ومنع أصحابه من التلصص، وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندمة، وبنى بالدينور جامعاً على هذا البناء، وكان كثير الصدقة بالحرمين، إلى أن مات في هذه السنة، وافترق أولاده من بعده، فبعضهم انحاز إلى فخر الدولة، وبعضهم إلى عضد الدولة، وهم أبو العلاء، وعبد الرزاق، وأبو النجم بدرٌ، وعاصم، وأبو عدنان، وبختيار، وعبد الملك. وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الأموال والذخائر، فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته، ثم تلون عنه وتغير، فسير عضد الدولة إليه جيشاً فحصره وأخذ قلعته، وكذلك قلاع غيره من إخوته، واصطنع من بينهم أبا النجم بدر ابن حسنويه، وقواه بالرجال، فضبط تلك النواحي، وكف عادية من بها من الأكراد، واستقام أمره، وكان عاقلاً. .ذكر قصد عضد الدولة أخاه فخر الدولة وأخذ بلاده: وكان سبب ذلك أن بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة، بعد موت ركن الدولة، ويدعوه إلى الاتفاق معه على عضد الدولة، فأجابه إلى ذلك واتفقا. وعلم عضد الدولة به، فكتم ذلك إلى الآن، فلما فرغ من أعدائه كأبي تغلب، وبختيار، وغيرهما، ومات حسنويه بن الحسين، ظن عضد الدولة أن الأمر يصلح بينه وبين أخويه، فراسل أخويه فخر الدولة، ومؤيد الدولة، وقابوس بن وشمكير. فأما رسالته إلى أخيه مؤيد الدولة، فيشكره على طاعته وموافقته، فإنه كان مطيعاً له غير مخالف. وأما إلى فخر الدولة، فيعاتبه ويستميله، ويذكر له ما يلزمه به الحجة. وأما إلى قابوس، فيشير عليه بحفظ العهود التي بينهما. فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوئ، ونسي كبر السن، وسعة الملك وعهد أبيه. وأما قابوس فأجاب جواب المراقب. وكان الرسول خواشاده، وهو من أكابر أصحابه، فاستمال أصحاب فخر الدولة، فضمن لهم الإقطاعات، وأخذ عليهم العهود، فلما عاد الرسول برز عضد الدولة من بغداد على عزم المسير إلى الجبل وإصلاح تلك الأعمال، وابتدأ فقدم العساكر بين يديه يتلو بعضها بعضاً، منهم أبو الوفاء على عسكر، وخواشاده على عسكر، وأبو الفتح المظفر بن محمد في عسكر، فسارت هذه العساكر، وأقام هو بظاهر بغداد. ثم سار عضد الدولة، فلقيته البشائر بدخول جيوشه همذان، واستئمان العدد الكثير من قواد فخر الدولة ورجال حسنويه، ووصل إليه أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة، ومعه جماهير أصحابه، فانحل أمر فخر الدولة، وكان بهمذان، فخاف من أخيه، وتذكر قتل ابن عمه بختيار، فخرج هارباً، وقصد بلد الديلم، ثم خرج منها إلى جرجان، فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير، والتجأ إليه فأمنه وآواه، وحمل إليه فوق ما حدث به نفسه، وشركه فيما تحت يده من ملك وغيره. وملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة همذان، والري، وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه، وجعله خليفته ونائبه في تلك البلاد، ونزل الري، واستولى على تلك النواحي. ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي، فقصد نهاوند، وكذلك الدينور، وقلعة سرماج، وأخذ ما فيها من ذخائر حسنويه، وكانت جليلة المقدار، وملك معها عدة من قلاع حسنويه، ولحقه في هذه السفرة صرع، وكان هذا قد أخذه بالموصل، وحدث به فيها، فكتمه، وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعد جهدٍ، وكتم ذلك أيضاً، وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد. وأتاه أولاد حسنويه، فقبض على عبد الرزاق، وأبي العلاء، وأبي عدنان، وأحسن إلى بدر بن حسنويه، وخلع عليه، وولاه رعاية الأكراد؛ هذا آخر ما في تجارب الأمم تأليف أبي علي بن مسكويه.
|